ثقافة حضور التصوف في تشكيل جمال الطالبي: طريقة بين قيمة الموروث والسؤال المستقبلي
أكابر شلبي باحثة ورسامة:
مما يشد الانتباه في تجربة جمال الطالبي هو التموقع بين التشكيل والتصوف، بين ما هو روحاني وما هو فني، إذ يتحد الباطني بالفن والعقل بالحس ويتوحد القدسي مع الفني، هنا تجتمع اللغة التشكيلية مع المنظور الصوفي. لنكتشف ممارسة ذاتية تنم عن صبغة صوفية تتّحد مع الفن، فكان البعد الصوفي لدى الطالبي يمثل شكلا فنيا جديدا، فهذه الممارسة هي ممارسة تجريدية تكشف عن عالم غيبي متجاوز للعالم المادي النسبي.
فليس من قبيل المصادفة أن تتغنى أعمال الطالبي بالجانب الصوفي وإنما هو تجاوز منه لما هو ظاهري نحو ماهو باطني غيبي، انه التقاء التصوف والتشكيل. وجمال الطالبي هو فنان جزائري يقول "ولدت وسط كنز من الألوان والأشكال، وسط فيه القيمة، وقيم القيم، إنها ثروة أصيلة انفتحت عيناي على بيت بربري منذ قرن من الزمان، على سفح جبل من أكثر الجبال وعورة وعزلة من بلاد القبائل. .....هي سنة غير افتراضية ليوم مولدي. سيدي أيدير: انه كوكب أخر...وبعد أخر ..، انفتحت عيناي بعيدا عن كل حضن راع. بعيدا عن رفاهية المادة، لا كهرباء.. لا ماء، دروب وعرة ضيقة لكنها قابلة للمرور، نافذة قديمة على عالم قديم من الزمن السحيق المتوقف، انه الحظ والسعادة بالرجوع وراء، انه حيز مكاني واقع محفور بداخلي، إنها الأشكال الأولى المعبرة عن وجودي".
وإنما هو الناسك في محرابه، العاشق المتصوف في أناقة وصفه لحياته ، وهو الفنان المتمكن من أدواته أكاديميا، تخرج من جامعة الفنون مستغانم ، ليعد واحد من أهم التشكيليين الاكادميين العرب بالجزائر. يدخل الطالبي لوحة لتبدو جزءا منه، يمتلك الخصوبة والذاتية الساعية لتشكيل عوالمه الإبداعية وفق معايير حقيقة. هذه الأفكار أحاول أن تكون صور في ذهن المتلقي من خلال قراءة تشكيلية لأعماله التي ستكون انعكاساتها على شاكلة دلالات سيميائية قابلة للتجديد فبقلب الصورة أو مجانبتها يمكن أن تتغير الدلالة و هذا قصدا منه في التمرد على المتعارف عليه.
فيربك المتلقى لا ليكون مشاهدا و إنما لينمي لديه إيقاعات ذهنية تتغلغل في حواسه و تحاوره لكي يبني منطلقات فنية تتنوع في رحاب الفن التشكيلي. يأتي كل هذا تأكيدا على أن الفنان حمال لهواجس واقعه بكل متغيراته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية و الثقافية، حتى تكون الصوفية منطلقا لأساليب فنية جديدة . فما الذي تضمره أعمال جمال الطالبي من الناحية الصوفية ؟ وكيف يحافظ على القيمة الجمالية في زمن نفعي لا فرق فيه بين الموضوع الزائف والعمل الفني؟ والى أي مدى اعتبار تجربة الطالبي مؤسسة لعالم تشاركي علائقي كوني؟.
تعتبر تجربة الطالبي خطاب تشكيلي ينم عن تجليات الذات الكاشفة عن صيرورتها من خلال إفراز وعي الفنان بالجدلية القائمة على التكنيك الفني والتقنية الجمالية بأبعادها المستفزة للذاكرة ، لطالبي ذاكرة شهدت منعطفات وتحولات تجريبية تتوافق والتحول الحضاري القائم على الجدلية بين المحسوس المادوي والمحسوس الروحاني بمحتواه الهام المنتج لقدرة تملكها فناننا هذا لفهم الحياة بمكنوناتها وقوانينها للتعبير تشكيليا عن مشكلات الإنسان الكونية..
وباستحضار أعمال الطالبي التشكيلية المدونة لسيرته الجامعية ومابين الذاتية والمكانية مع التركيز على حياته اليومية بكل مفاصلها الحياتية التي تحمل مزيج من الرؤية والحلم والذاكرة. إن المتأمل في أعمال جمال الطالبي سيعود في أصولة البكر إلى أعماق ذاكرته مسافرا فيها وباحثا عن مستلهماته التشكيلية التي جاءت على شاكلة أشكالا تعبيرية يمزج فيها العاطفة بالوجدان وكأنه يخبرنا بخطابه التشكيلي الترميزي عن أصوله الامازيغية بما هي جزء في مسيرة تجاربه التشكيلية وفي تعامله الإيحائي مع الموروث. لعل الطريف في تجربة جمال الطالبي يكمن في وظيفة اليومي بكل تفاصيله من أشكال من خطوط وألوان ورموز وعناصر تركيبية وتوليفية يهضمها الفنان روحيا لتنقلب على شاكلة ممارسات تشكيلية تجاهر بنصوص ترميزية يتحسسها الطالبي عند الاشتغال على المواد اللونية (اكريليك، زيتي ، مواد مختلفة) مكونا بذلك ولادة جمالية وتعبيرية. أكد هيغل أن أسمى دراجات الجمال حين يتحقق المضمون الروحاني الباطني، من هذا المنطلق تعتبر الصوفية مسارا فكريا وروحيا يخص الإنسان المسكون بهاجس التحرر وللطالبي تجربة تصله بذاته الداخلية وبكل ما يتجاوز الواقع المادي منفتحا بذلك على واقع حقيقي وفعلي يقول عفيف البهنسي"يتفق الفلاسفة، ابن عربي، الجيلاني النابلسي، على أن الجمال المطلق هو الكمال الذي لا يتعين في مادة ولا يتكيف بشكل أو هيأة، والذي يحقق متعة روحانية لا حسية، لأنه لا ينتسب إلى عقل نسبي، بل إلى العقل الأول. وهكذا فإن الكمال المطلق خالص من أسر المادة."
إن ما يصوره الطالبي من صباغة جمالية مستلهما بذلك روحه في التعبير عن القلق والتشظي القائمين في الذات العربية المعاصرة وفي إنزياحها الظاهر في علاقتها بالعالم والوجود وكأنه يعيد توظيف المفردات التراثية التي باتت مستهلكة بصفة عبثية، لتتحول مع تجاربه إلى رؤية جمليّة غنية جاءت نتاجا لحسن اختيراته الثقافية، بماهو خبير بالثقافة وباحث في عالم الموسيقى والتصوير الشمسي ( عازف على آلة القيتار، مصور فوتوغرافي محترف) ومجرب دؤوب للمواد والخامات التشكيلية المختلفة ومتمرس لطبيعة المحامل على اختلافها وتنوعها، قماش، ورق، خشب، وقدرتها على استيعاب أصباغه التي يوظفها في مغامراته التجريبية، وكأنه بها يتصارع مع القديم للبحث عن كوة ضوء في عتمة الراهن، يفتح ذاتيته من خلالها على المطلق الذي لا يؤمن بحدود، مصورا لنا البعد الروحي والصوفي الذي نستحسن الالتجاء إليه كلما أنهكنا التفكير.
يعد العمل الفني لدى جمال الطالبي تصورا يجسد اتحاد الفكرة بالعالم الحسي الذي يبني من خلاله النمط الرمزي لعمله التشكيلي وكأنه يخلق لنا مجالا لبلوغ الروح الإنسانية في شموليتها وذلك عبر خلقه لتصور تتحد فيه الفكرة بالشكل. لنجده يتلمس تفاصيل أشكاله النابعة من مفردات صوفية تلخص عمق رؤيته للوجود معبرا بذلك عن قلقه النابع من أعماق الوجدان والعاطفة ليضفي، بذلك على لوحاته آثرا حدسيا ووجدانيا في بعده الصوفي. ومن هنا فإن كل لوحة للطالبي هي حالة نفسية يشكلها على طريقته، وكأنه يريد أن يلج من خلالها الذاكرة الجماعية وأن تتغلغل بشكل لافت في الذهنة العالمية. فهنا يخلق الطالبي شكله المميز في التعبير عن الحياة عبر تعاطيه للون وخاصة احترافيته الواضحة في الرماديات الملونة وكأنه هنا يناشد الناشئة النسج على نفس منواله البحثي مع اللون والمادة لا بأخذها كما هي وإنما بخلق تتبع رصين في ترويضها كي تغدو الطريقة الراهنة. فالطالبي يتلمس أدوات التصوف من حدس واختزال وتبسيط، إلى جانب الأشكال من دوائر وخطوط وكأنه بالمتأمل الفلسفي بعيدا كل البعد عن اجترار عناصر الموروث، ليحدث بذلك تمثل لتجربة داخلية عميقة تحول ما يشاهده من الخارج ليشرق من الداخل، ثم الظهور من جديد بتجربة فنية ما انفكت تخرج لو لا الصراعات والتقلبات الداخلية البناءة، وهو ما كان جليا في تجربة الطالبي التشكيلية المبنية على الاختزال والتجريد. فهو المتقن لرسم طيف الأشياء سواء كانت بشرية أو طبيعية، يلون الطالبي بأصباغ ترابية باعثة عن الهدوء والسكينة فيها تختبر الذات أقصى ممكنها. يقول "اتيان سوريوا". "الجو هنا هو الإنطباع الحسي أو العاطفي الذي يغمر العمل الفني، باعتبار هذا الانطباع في حد ذاته وليس في ما يتعلق بالوسائل المادية أو التقنية التي ساهمت فيه". إن المناخ الذي يمتطيه الطالبي في رسوماته شيء مرتبط بالانطباع وبالحس تجاه العمل الفني. فكل عمل فني لديه خصوصيته وهو شيء غير مادي مرتبط بالإحساس والمتخيل. يلتجأ فناننا إلى أخذ شكلا طقسيا ساهم من خلاله في إيجاد أسلوبه الذي يميزه دون سواه، فهو يقدم أعماله كغرفة حسية يدخلها المشاهد يجول فيها بناظريه باحثا عن شيء يشبهه وكأن بالطالبي يسرد دواخلنا حسا صباغيا مفتوح على استفهامات المبدع المفكر.
لا تسعفني ذاكرتي المزدحمة بحثا وتفكيرا في قراءة هذه التجربة بالولوج إليها مرة واحدة و إنما تتطلب تجربة الفنان الجزائري جمال الطالبي بحثا وتمحيصا بل تقصيها بالحضور كأن أشاهده وهو يرسم بورشته علي استشف منه حكايات لم اقوي على قراءتها بمفردي، فما يقدمه هذا الفنان من إبداع حبك في خيوط الصباغة و انصهار روحاني في مساربها على نحو لا يتيح بيسر فهم مكنوناتها.
فهو السارد لتشكيل تراكيبه بأسلوب متناغم بلا تعثرات أو نشاز. فقد أكدت التجارب التجريدية على كثرتها، أن مثل هذا العمل الذي يقدمه الطالبي يحتاج إلى صبر وجهد مضاعفين بما هو مغامرة يقبل عليها الطالبي وهو يدرك أنّها نحت يومي ومكابدة عسيرة لسيرة فنان لها مسارات يبنيها بشيء من التمرد.
وختاما أقول أن هذه الأعمال التي يرسمها الطالبي بوحا وإيحاءا، تصريحا وتلميحا، هي من روح التجريد وضوئه المورائي للأشياء. وهي تحتاج إلى قارئ جيد يفقهها ويؤوّل معانيها كذلك هي تحتاج شعوبا تتممتع بالعافية الكاملة كي تحتضن هذا الأسلوب من الفن بل تحتضن مبدعيها بكل بهجة وفكر. وأن تعترف بقيمة هذه الثروات التشكيلية التي من خلالها نقيم مصالحة لذواتنا بين مخيال القديم وخيال حداثي جديد.